فصل: فَصْــل في الاستبراء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فَصْــل

واللّه ورسوله عَلَّق القصر والفِطْرَ بمسمي السفر ولم يحده بمسافة، ولا فَرَّق بين طويل وقصير، ولو كان للسفر مسافة محدودة لبينه اللّه ورسوله، ولا له في اللغة مسافة محدودة، فكل ما يسميه أهل اللغة سفرًا، فإنه يجوز فيه القصر والفطر كما دل عليه الكتاب والسنة، وقد قصر أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفات، وهي من مكة بَرِيد، فعلم أن التحديد بيوم أو يومين أو ثلاثة ليس حدًا شرعيًا عامًا‏.‏ وما نقل في ذلك عن الصحابة قد يكون خاصًا، كان في بعض الأمور لا يكون السفر إلا كذلك؛ ولهذا اختلفت الرواية عن كل منهم كابن عمر وابن عباس، وغيرهما، فعلم أنهم لم يجعلوا للمسافر ولا الزمان حدًا شرعيًا عامًا، كمواقيت الصوم والصلاة، بل حدوه لبعض الناس بحسب ما رأوه سفرًا لمثله في تلك الحال، وكما يحد الحادُّ الغني والفقير في بعض الصور بحسب ما يراه، لا لأن الشرع جعل للغني والفقير مقدارًا من المال يستوي فيه الناس كلهم، بل قد يستغني الرجل بالقليل وغيره لا يغنيه أضعافه؛ لكثرة عياله وحاجاته، وبالعكس‏.‏

وبعض الناس قد يقطع المسافة العظيمة ولا يكون مسافرًا، كالبريد /إذا ذهب من البلد لتبليغ رسالة أو أخذ حاجة ثم كَرَّ راجعًا من غير نزول‏.‏ فإن هذا لا يسمي مسافرًا، بخلاف ما إذا تزود زاد المسافر، وبات هناك، فإنه يسمي مسافرًا، وتلك المسافة يقطعها غيره، فيكون مسافرًا يحتاج أن يتزود لها، ويبيت بتلك القرية ولا يرجع إلا بعد يوم أو يومين، فهذا يسميه الناس مسافرًا، وذلك الذي ذهب إليها طَرْدًا وكر راجعًا على عَقِبِه لا يسمونه مسافرًا، والمسافة واحدة‏.‏

فالسفر حال من أحوال السير لا يحد بمسافة ولا زمان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء كل سبت راكبًا وماشيًا ولم يكن مسافرًا، وكان الناس يأتون الجمعة من العَوَالى والعَقيقِ ثم يدركهم الليل في أهلهم ولا يكونون مسافرين، وأهل مكة لما خرجوا إلى منى وعرفة كانوا مسافرين، يتزودون لذلك، ويبيتون خارج البلد، ويَتَأَهَّبُون أُهْبَةَ السفر، بخلاف من خرج لصلاة الجمعة أو غيرها من الحاجات، ثم رجع من يومه ولو قطع بريدًا، فقد لا يسمى مسافرًا‏.‏

وما زال الناس يخرجون من مساكنهم إلى البساتين التي حول مدينتهم، ويعمل الواحد في بستانه أشغالًا من غَرْسٍ وسَقْىٍ، وغير ذلك، كما كانت الأنصار تعمل في حيطانهم ولا يسمون مسافرين، ولو أقام أحدهم طول النهار، ولو بات في بستانه وأقام فيه أيامًا، ولو كان البستان أبعد من بريد، فإن البستان من توابع البلد عندهم، والخروج / إليه كالخروج إلى بعض نواحى البلد، والبلد الكبير الذي يكون أكثر من بريد متى سار من أحد طرفيه إلى الآخر لم يكن مسافرًا؛ فالناس يفرقون بين المتنقل في المساكن وما يتبعها، وبين المسافر الراحل عن ذلك كله، كما كان أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم يذهبون إلى حوائطهم ولا يكونون مسافرين، والمدينة لم يكن لها سور بل كانت قبائل قبائل، ودورًا دورًا، وبين جانبيها مسافة كبيرة، فلم يكن الراحل من قبيلة إلى قبيلة مسافرًا، ولو كان كل قبيلة حولهم حيطانهم ومزارعهم فإن اسم المدينة كان يتناول هذا كله‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏، فجعل الناس قسمين‏:‏ أهل بادية‏:‏هم الأعراب، وأهل المدينة، فكان الساكنون كلهم في المَدَرِ أهل المدينة، وهذا يتناول قباء وغيرها، ويدل على أن اسم المدينة كان يتناول ذلك كله، فإنه لم يكن لها سور كما هي اليوم‏.‏ والأبواب تفتح وتغلق، وإنما كان لها أَنْقَاب، وتلك الأنقاب وإن كانت داخل قباء وغيرها، لكن لفظ المدينة قد يعم حاضر البلد، وهذا معروف في جميع المدائن‏.‏ يقول القائل‏:‏ ذهبت إلى دمشق أو مصر أو بغداد، أو غير ذلك، وسكنت فيها، وأقمت فيها مدة، ونحو ذلك، وهو إنما كان ساكنًا خارج السور‏.‏ فاسم المدينة يعم تلك المساكن كلها، وإن كان الداخل / المُسَوَّر أخص بالاسم من الخارج‏.‏

وكذلك مدينة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان لها داخل وخارج، تفصل بينهما الأنقاب، واسم المدينة يتناول ذلك كله في كتاب اللّه ـ تعالى؛ ولهذا كان هؤلاء كلهم يصلون الجمعة والعيدين خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، لم تكن تقام جمعة ولا عيدان لا بقباء ولا غيرها، كما كانوا يصلون الصلوات الخمس في كل قبيلة من القبائل‏.‏

ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن بالمدينة لرجالا‏)‏ هو يعم جميع المساكن‏.‏

وكذلك لفظ القرى الشامل للمدائن، كقوله‏:‏ ‏{‏وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 59‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 100‏]‏، فإن هذا يتناول المساكن الداخلية والخارجية وإن فصل بينها سور، ونحوه؛ فإن البعث والإهلاك، وغير ذلك لم يخص بعضهم دون بعض، وعامة المدائن لها داخل وخارج‏.‏

/ ولفظ الكعبة هو في الأصل اسم لنفس البنْيَة، ثم في القرآن قد استعمل فيما حولها، كقوله‏:‏ ‏{‏هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏ وكذلك لفظ المسجد الحرام، يعبر به عن المسجد، وعما حوله من الحرم‏.‏ وكذلك لفظ بَدْر، هو اسم للبئر، ويسمى به ما حولها‏.‏ وكذلك أحد، اسم للجبل، ويتناول ما حوله، فيقال‏:‏ كانت الوقعة بأحد؛ وإنما كانت تحت الجبل، وكذلك يقال لمكان العقبة ولمكان القصر، والعُقَيْبَة تصغير العقبة، والقُصَيْر تصغير قصر، ويكون قد كان هناك قصر صغير أو عقبة صغيرة، ثم صار الاسم شاملًا لما حول ذلك مع كِبَرِه، فهذا كثير غالب في أسماء البقاع‏.‏

والمقصود أن المتردد في المساكن لا يسمى مسافرًا، وإذا كان الناس يعتادون المبيت في بساتينهم ـ ولهم فيها مساكن ـ كان خروجهم إليها كخروجهم إلى بعض نواحي مساكنهم، فلا يكون المسافر مسافرًا، حتى يسفر فيكشف ويظهر للبرية الخارجة عن المساكن التي لا يسير السائر فيها، بل يظهر فيها وينكشف في العادة‏.‏ والمقصود أن السفر يرجع فيه إلى مسماه لغة وعرفًا‏.‏

/ فصــل

وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس فيما دون خمسة أَوْسُق صدقة، وليس فيما‏)‏ دون خمس أَوَاق صدقة؛ وليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقـة‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لا شيء في الرِّقَةِ حتى تبلغ مائتي درهم‏)‏، وقال في السارق‏:‏ ‏(‏يقطع إذا سرق ما يبلغ ثمن المجَنّ‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏تقطع اليد في ربع دينار‏)‏، والأوقية في لغته أربعون درهمًا، ولم يذكر للدرهم ولا للدينار حدًا، ولا ضرب هو درهمًا، ولا كانت الدراهم تُضْرَب في أرضه، بل تجلب مضروبة من ضرب الكفار، وفيها كبار وصغار، وكانوا يتعاملون بها تارة عددًا، وتارة وزنًا، كما قال‏:‏ ‏(‏زِنْ وأرجح، فإن خير الناس أحسنهم قضاء‏)‏، وكان هناك وَزَّان يزن بالأجر، ومعلوم أنهم إذا وزنوها فلابد لهم من صَنْجَةٍ يعرفون بها مقدار الدراهم، لكن هذا لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقدره، وقد ذكروا أن الدراهم كانت ثلاثة أصناف‏:‏ ثمانية دَوَانِقٍ، وستة، وأربعة، فلعل البائع قد يسمي أحد تلك الأصناف فيعطيه المشتري من وزنها، ثم هو مع هذا أطلق لفظ الدينار والدرهم ولم يحده، فدل على أنه يتناول هذا كله، وأن مَنْ ملك مِنَ / الدراهم الصغار خمس أواق ـ مائتي درهم ـ فعليه الزكاة، وكذلك من الوسطى وكذلك من الكبرى‏.‏

وعلى هذا، فالناس في مقادير الدراهم والدنانير على عاداتهم، فما اصطلحوا عليه وجعلوه درهمًا فهو درهم، وما جعلوه دينارًا فهو دينار، وخطاب الشارع يتناول ما اعتادوه سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، فإذا كانت الدراهم المعتادة بينهم كبارًا لا يعرفون غيرها لم تجب عليه الزكاة حتى يملك منها مائتي درهم، وإن كانت صغارًا لا يعرفون غيرها وجبت عليه إذا ملك منها مائتي درهم، وإن كانت مختلطة فملك من المجموع ذلك وجبت عليه، وسواء كانت بِضَرْب واحد، أو ضروب مختلفة، وسواء كانت خالصة أو مغشوشة، ما دام يسمى درهما مطلقًا‏.‏ وهذا قول غير واحد من أهل العلم‏.‏

فأما إذا لم يسم إلا مقيدًا مثل‏:‏ أن يكون أكثره نحاسًا، فيقال له‏:‏ درهم أسود، لا يدخل في مطلق الدرهم، فهذا فيه نظر‏.‏ وعلى هذا، فالصحيح قول من أوجب الزكاة في مائتي درهم مغشوشة، كما هو قول أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب أحمد، وإذا سرق السارق ثلاثة دراهم من الكبار أو الصغار أو المختلطة قطعت يده‏.‏

وأما الوَسَق فكان معروفًا عندهم أنه ستون صَاعًا، والصاع / معروف عندهم‏.‏ وهو صاع واحد غير مختلف المقدار، وهم صنعوه، لم يُجْلَب إليهم‏.‏ فلما علق الشارع الوجود بمقدار خمسة أوسق كان هذا تعليقًا بمقدار محدود يتساوى فيه الناس، بخلاف الأواقي الخمسة فإنه لم يكن مقدارًا محدودًا يتساوي فيه الناس، بل حده في عادة بعضهم أكثر من حده في عادة بعضهم، كلفظ المسجد، والبيت، والدار، والمدينة، والقرية، هو مما تختلف فيه عادات الناس في كِبَرِها وصغرها، ولفظ الشارع يتناولها كلها‏.‏

ولو قال قائل‏:‏ إن الصَّاع والمُدَّ يرجع فيه إلى عادات الناس، واحتج بأن صاع عُمَرَ كان أكبر، وبه كان يأخذ الخَرَاج، وهو ثمانية أرطال كما يقوله أهل العراق؛ لكان هذا يمكن فيما يكون لأهل البلد فيه مِكْيَالان‏:‏ كبير وصغير‏.‏ وتكون صدقة الفطر مقدرة بالكبير، والوسق ستون مكيالًا من الكبير؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدر نِصَاب الموسَقَات، ومقدار صدقة الفطر بصاع، ولم يقدر بالمد شيئًا من النُّصُب والواجبات، لكن لم أعلم بهذا قائلًا، ولا يمكن أن يقال إلا ما قاله السلف قبلنا؛ لأنهم علموا مراد الرسول قطعًا، فإن كان من الصحابة أو التابعين من جعل الصاع غير مقدر بالشرع صارت مسألة اجتهاد‏.‏

وأما الدرهم والدينار فقد عرفت تنازع الناس فيه، واضطراب / أكثرهم، حيث لم يعتمدوا على دليل شرعي، بل جعلوا مقدار ما أراده الرسول هو مقدار الدراهم التي ضربها عبدالملك؛ لكونه جمَع الدراهم الكبار والصغار والمتوسطة وجعل معدلها ستة دَوَانِيق، فيقال لهم‏:‏ هَبْ أن الأمر كذلك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خاطب أصحابه وأمته بلفظ الدرهم والدينار ـ وعندهم أوزان مختلفة المقادير كما ذكرتم ـ لم يحد لهم الدرهم بالقدر الوسط، كما فعل عبد الملك، بل أطلق لفظ الدرهم والدينار، كما أطلق لفظ القميص والسَّرَاوِيل، والإزار والرداء، والدار والقرية، والمدينة والبيت، وغير ذلك من مصنوعات الآدميين، فلو كان للمسمى عنده حد لحده مع علمه باختلاف المقادير، فاصطلاح الناس على مقدار درهم ودينار أمر عادى‏.‏

ولفظ الذراع أقرب إلى الأمور الخِلْقية منه؛ فإن الذراع هو في الأصل ذراع الإنسان، والإنسان مخلوق، فلا يفضل ذراع على ذراع إلا بقدر مخلوق لا اختيار فيه للناس، بخلاف ما يفعله الناس باختيارهم من درهم ومدينة ودار؛ فإن هذا لا حد له، بل الثياب تتبع مقاديرهم والدور والمدن بحسب حاجتهم، وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طَبْعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارًا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل/ بها؛ ولهذا كانت أثمانًا؛ بخلاف سائر الأموال، فإن المقصود الانتفاع بها نفسها؛ فلهذا كانت مقدرة بالأمور الطبعية أو الشرعية، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت‏.‏

وأيضًا، فالتقدير إنما كان لخمسة أوسق وهي خمسة أَحْمَال، فلو لم يعتبر في ذلك حدًا مستويًا لوجب أن تعتبر خمسة أحمال من حمال كل قوم‏.‏

وأيضًا، فسائر الناس لا يسمون كلهم صاعًا، فلا يتناوله لفظ الشارع كما يتناول الدرهم والدينار، اللهم إلا أن يقال‏:‏ إن الصاع اسم لكل ما يكال به، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏صُوَاعَ الْمَلِكِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 72‏]‏ فيكون كلفظ الدرهم‏.‏

 فَصْـل

وكذلك لفظ الإطعام لعشرة مساكين لم يقدره الشرع، بل كما قال اللّه‏:‏ ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏، وكل بلد يطعمون من أوسط ما يأكلون كفاية غيره، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع‏.‏

/ وكذلك لفظ ‏[‏الجِزْيَة‏]‏ و ‏[‏الدِّيَة‏]‏ فإنها فِعْلَة من جَزَى يَجْزِى إذا قضى وأدى، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك‏)‏، وهي في الأصل جَزَا جِزْيَة كما يقال‏:‏ وَعَدَ عِدَةً ووزن زِنَةً‏.‏ وكذلك لفظ ‏[‏الدية‏]‏ هو من وَدَىَ يَدي دِيَةً، كما يقال‏:‏ وعد يَعِدُ عِدَةً، والمفعول يسمى باسم المصدر كثيرًا، فيسمى المودِى دِيَة والمجزي المقضي جزية، كما يسمى الموعود وعدًا في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 25 - 27‏]‏‏.‏ وإنما رأوا ما وعدوه من العذاب، وكما يسمى مثل ذلك الإتاوة؛ لأنه تؤتى، أي‏:‏ تعطى‏.‏ وكذلك لفظ الضَّرِيبة لما يضرب على الناس‏.‏ فهذه الألفاظ كلها ليس لها حد في اللغة ولكن يرجع إلى عادات الناس، فإن كان الشرع قد حد لبعض حدًا كان اتباعه واجبًا‏.‏

ولهذا اختلف الفقهاء في الجزية‏:‏ هل هي مقدرة بالشرع أو يرجع فيها إلى اجتهاد الأئمة‏؟‏

وكذلك الخَرَاج، والصحيح أنها ليست مقدرة بالشرع‏.‏ وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ‏:‏ أن يأخذ مـن كل حَـاِلمٍ دينارًا، أو عدله مَعَافِريا ‏[‏والمَعافِرىّ‏:‏ هي برود يمنية منسوبة إلى قبيلة مَعافِر ببلاد اليمن‏]‏‏.‏ قضية في عين، لم يجعل ذلك شرعًا عامـًا لكل مـن تؤخذ منـه الجـزية إلى يوم القيامة، بدليل أنه صَالَحَ لأهل البحرين على /حالم ولم يقـدره هـذا التقـدير، وكـان ذلك جـزية، وكذلك صَالَحَ أهل نجران على أمـوال غير ذلك ولا مقـدرة بذلك، فعلم أن المرجع فيها إلى ما يراه ولي الأمر مصلحة ومـا يرضى بـه المعاهـدون، فيصـير ذلك عليهم حقـًا يجـزونـه، أي‏:‏ يقصـدونـه ويـؤدونه‏.‏

وأما الدية، ففي العَمْد يرجع فيها إلى رِضَا الخصمين، وأما في الخطأ فوجبت عَيْنًا بالشرع، فلا يمكن الرجوع فيها إلى تراضيهم، بل قد يقال‏:‏ هي مقدرة بالشرع تقديرًا عامًا للأمة، كتقدير الصلاة والزكاة، وقد تختلف باختلاف أقوال الناس في جنسها وقدرها، وهذا أقرب القولين وعليه تدل الآثار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعلها مائة لأقوام كانت أموالهم الإبل؛ ولهذا جعلها على أهل الذهب ذهبًا، وعلى أهل الفضة فضة، وعلى أهل الشاء شاءً، وعلى أهل الثياب ثيابًا، وبذلك مضت سيرة عمر بن الخطاب، وغيره‏.‏

 فَصْــل

وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 5، 6‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك‏)‏، وقد دل القرآن على أن ما حَرُمَ وطؤه بالنكاح / حرم بملك اليمين، فلا يحل التَّسَرِّى بذوات محارمه ولا وَطْءِ السَّرِيَّة في الإحرام والصيام والحيض، وغير ذلك مما يحرم وطء الزوجة فيه بطريق الأولى‏.‏

وأما الاسْتِبْرَاء فلم تأتِ به السنة مطلقًا في كل مملوكة، بل قد نَهي صلى الله عليه وسلم أن يسقى الرجل ماءَه زَرْعَ غيره‏.‏ وقال في سبايا أَوْطَاس ‏[‏أوطاس‏:‏ واد في ديار هوازن، فيه كانت وقعة حنين‏]‏‏:‏ ‏(‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ‏)‏، وهذا كان في رقيق سبىٍ، ولم يقل مثل ذلك فيما ملك بإرْثٍ أو شراء أو غيره‏.‏ فالواجب أنه إن كانت توطأ المملوكة لا يحل وطؤها حتى تستبرأ؛ لئلا يسقى الرجل ماءه زرع غيره‏.‏ وأما إذا علم أنها لم يكن سيدها يطؤها؛ إما لكونها بكرًا، أو لكون السيد امرأة أو صغيرًا، أو قال وهو صادق‏:‏ إنى لم أكن أطأها، لم يكن لتحريم هذه حتى تستبرأ وجه، لا من نص ولا من قياس‏.‏

 فصــل

النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العَاقِلة ‏[‏العاقلة‏:‏ هي العصبة والأقارب من قبل الأب الذين يعطون دية قتيل الخطأ، وهي صفة جماعة‏:‏ عاقلة، وأصلها اسم، فاعلة من العقل، وهي من الصفات الغالبة‏]‏، وهم‏:‏ الذين ينصرون الرجل ويعينونه، وكانت العاقلة على عهده هم عَصَبته‏.‏ فلما كان في زمن عمر جعلها على أهل الديوان؛ ولهذا اختلف فيها الفقهاء،/ فيقال‏:‏ أصل ذلك أن العاقلة هم محدودون بالشرع، أو هم من ينصره ويعينه من غير تعيين‏.‏ فمن قال بالأول لم يعدل عن الأقارب؛ فإنهم العاقلة على عهده‏.‏ومن قال بالثانى جعل العاقلة في كل زمان ومكان من ينصر الرجل ويعينه في ذلك الزمان والمكان‏.‏ فلما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما ينصره ويعينه أقاربه كانوا هم العاقلة؛ إذ لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ديوان ولا عطاء، فلما وضع عمر الديوان كان معلومًا أن جند كل مدينة ينصر بعضه بعضًا، ويعين بعضه بعضًا، وإن لم يكونوا أقارب، فكانوا هم العاقلة، وهذا أصح القولين‏.‏ وأنها تختلف باختلاف الأحوال، وإلا فرجل قد سكن بالمغرب، وهناك من ينصره ويعينه كيف تكون عاقلته مَنْ بالمشرق في مملكة أخرى، ولعل أخباره قد انقطعت عنهم‏؟‏ والميراث يمكن حفظه للغائب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المرأة القاتلة أن عَقْلَها على عصبتها؛ وأن ميراثها لزوجها وبنيها، فالوارث غير العاقلة‏.‏

وكذلك تأجيلها ثلاث سنين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤجلها، بل قضى بها حَالَّةً، وعمر أجلها ثلاث سنين‏.‏ فكثير من الفقهاء يقولون‏:‏ لا تكون إلا مؤجلة، كما قضى به عمر، ويجعل ذلك بعضهم إجماعًا، وبعضهم قال‏:‏ لا تكون إلا حالة‏.‏ والصحيح أن تعجيلها وتأجيلها بحسب الحال والمصلحة، فإن كانوا مَيَاسِير ولا ضرر عليهم في التعجيل أخذت /حالة، وإن كان في ذلك مشقة جعلت مؤجلة‏.‏ وهذا هو المنصوص عن أحمد‏:‏ أن التأجيل ليس بواجب، كما ذكر كثير من أصحابه أنه واجب، موافقة لمن ذكر ذلك من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك، وغيرهم؛ فإن هذا القول في غاية الضعف، وهو يشبه قول من يجعل الأمة يجوز لها نسخ شريعة نبيها، كما يقوله بعض الناس من أن الإجماع ينسخ، وهذا من أنكر الأقوال عند أحمد‏.‏ فلا تترك سنة ثابتة إلا بسنة ثابتة، ويمتنع انعقاد الإجماع على خلاف سنة إلا ومع الإجماع سنة معلومة نعلم أنها ناسخة للأولى‏.‏

 فصــل

وقد قـال اللّه ـ تعالى ـ في آية الخمس‏:‏ ‏{‏فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏؛ ومثل ذلك في آية الفيء‏.‏ وقال في آية الصدقات‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏، فأطلق اللّه ذكر الأصناف، وليس في اللفظ ما يدل على التسوية، بل على خلافها، فمن أوجب باللفظ التسوية فقد قال ما يخالف الكتاب والسنة، ألا ترى أن اللّه لما قال‏:‏ ‏{‏وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏، وقال تعالى‏:‏ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 26‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 8‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 24، 25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏، وأمثال ذلك، لم تكن التسوية في شيء من هذه المواضع واجبة، بل ولا مستحبة في أكثر هذه المواضع‏.‏ سواء كان الإعطاء واجبًا أو مستحبًا، بل بحسب المصلحة‏.‏

ونحن إذا قلنا في الهَدْي والأُضْحية‏:‏ يستحب أن يأكل ثلثًا ويتصدق بثلث، فإنما ذلك إذا لم يكن هناك سبب يوجب التفضيل، وإلا فلو قدر كثرة الفقراء لاستحببنا الصدقة بأكثر من الثلث، وكذلك إذا قدر كثرة من يهدى إليه على الفقراء، وكذلك الأكل، فحيث كان الأخذ بالحاجة أو المنفعة كان الاعتبار بالحاجة والمنفعة بحسب ما يقع، بخلاف المواريث فإنها قسمت بالأنساب التي لا يختلف فيها أهلها، فإن اسم الابن يتناول الكبير والصغير والقوى والضعيف، ولم يكن الأخذ لا لحاجته ولا لمنفعته، بل لمجرد نَسَبه؛ فلهذا سوى فيها بين الجنس الواحد‏.‏

وأما هذه المواضع، فالأخذ فيها بالحاجة والمنفعة، فلا يجوز أن تكون التسوية بين الأصناف لا واجبة ولا مستحبة، بل العطاء بحسب الحاجة والمنفعة، كما كان أصل الاستحقاق معلقًا بذلك، والواو تقتضى/ التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم المذكور، والمذكور أنه لا يستحق الصدقة إلا هؤلاء، فيشتركون في أنها حلال لهم، وليس إذا اشتركوا في الحكم المذكور ـ وهو مطلق الْحِل ـ يشتركون في التسوية، فإن اللفظ لا يدل على هذا بحال‏.‏

ومثله يقال في كلام الوَاقِفِ والموصِي، وكان بعض الواقفين قد وقف على المدرس والمعيد والقَيِّم والفقهاء والمتفقهة، وجرى الكلام في ذلك فقلنا‏:‏ يعطى بحسب المصلحة، فطلب المدرس الخمس بناء على هذا الظن؛ فقيل له‏:‏ فأعطى القيم أيضًا الخمس؛ لأنه نظير المدرس، فظهر بطلان حجته‏.‏

آخره والحمد للّه رب العالمين‏.‏

/ وقال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ اللّه‏:‏

فَصْــل

قد ذم اللّه ـ تعالى ـ في القرآن من عَدَل عن اتباع الرسل إلى ما نشأ عليه من دين آبائه، وهذا هو التقليد الذي حرمه اللّه ورسوله، وهو‏:‏ أن يتبع غير الرسول فيما خالف فيه الرسول، وهذا حرام باتفاق المسلمين على كل أحد؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والرسول طاعته فرض على كل أحد من الخاصة والعامة في كل وقت وكل مكان؛ في سره وعلانيته، وفي جميع أحواله‏.‏

وهذا من الإيمان، قال اللّه تعالى‏:‏‏{‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 51‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 36‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏63‏]‏، وقال‏:‏‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وقد أوجب اللّه طاعة الرسول على جميع الناس في قريب من أربعين موضعًا من القرآن، وطاعته طاعة اللّه، وهي‏:‏ عبادة اللّه وحده لا شريك له، وذلك هو دين اللّه وهو الإسلام، وكل من أمر اللّه بطاعته من عالم وأمير ووالد وزوج؛ فلأن طاعته طاعة للّه‏.‏ وإلا فإذا أمر بخلاف طاعة اللّه فإنه لا طاعة له، وقد يأمر الوالد والزوج بمباح فيطاع، وكذلك الأمير إذا أمر عالمًا يعلم أنه معصية للّه، والعالم إذا أفتى المستفتى بما لم يعلم المستفتى أنه مخالف لأمر اللّه، فلا يكون المطيع لهؤلاء عاصيًا، وأما إذا علم أنه مخالف لأمر اللّه فطاعته في ذلك معصية للّه؛ ولهذا نقل غير واحد الإجماع على أنه لا يجوز للعالم أن يقلد غيره إذا كان قد اجتهد واستدل وتبين له الحق الذي جاء به الرسول، فهنا لا يجوز له تقليد من قال خلاف ذلك بلا نزاع، ولكن هل يجوز مع قدرته على الاستدلال أنه يقلد‏؟‏ هذا فيه قولان‏:‏

فمذهب الشافعي وأحمد وغيرهما لا يجوز‏.‏ وحكى عن محمد بن الحسن جوازه‏.‏ والمسألة معروفة‏.‏ وحكى بعض الناس ذلك عن أحمد،/ ولم يعرف هذا الناقل قول أحمد، كما هو مذكور في غير هذا الموضع‏.‏

وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند الجمهور، وفي صفة من يجوز له التقليد تفصيل ونزاع ليس هذا موضعه‏.‏

والمقصود هنا أن التقليد المحرم بالنص والإجماع‏:‏ أن يعارض قول اللّه ورسوله بما يخالف ذلك كائنًا من كان المخالف لذلك‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 27 ـ 30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 66 ـ 68‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 166 - 171‏]‏، فذكر براءة المتبوعين مـن أتباعهم في خـلاف طاعـة اللّه، ذكر هذا بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 163‏]‏، فالإله الواحد هو المعبود والمطاع، فمـن أطاع/متـبوعًا في خلاف ذلك فله نصيب من هذا الذم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 14، 15‏]‏‏.‏

ثم خاطب الناس بِأَكْل مافي الأرض حلالًا طيبًا، وألا يتبعوا خطوات الشيطان في خلاف ذلك، فإنه إنما يأمر بالسوء والفحشاء، وأن يقولوا على اللّه ما لا يعلمون، فيقولوا‏:‏ هذا حرام وهذا حلال، أو غير ذلك مما يقولونه على اللّه في الأمور الخبرية والعملية بلا علم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 116‏]‏‏.‏

ثم إن هؤلاء الذين يقولون على اللّه بغير علم إذا قيل لهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 170‏]‏، فليس عندهم علم، بل عندهم اتباع سلفهم، وهو الذي اعتادوه وتربوا عليه‏.‏

ثم خاطب المؤمنين خصوصًا فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 172، 173‏]‏، فأمرهم بأكل الطيبات مما رزقهم؛ لأنهم هم المقصودون بالرزق، ولم يشترط الحل هنا / لأنه إنما حرم ما ذكر، فما سواه حلال لهم، والناس إنما أمرهم بأكل ما في الأرض حلالًا طيبًا وهو إنما أحل للمؤمنين، والكفار لم يحل لهم شيئًا، فالحـل مشروط بالإيمان، ومـن لم يستعن برزقـه على عبادتـه لم يحل لـه شيئًا، وإن كـان ـ أيضا ـ لم يحرمه، فلا يقال‏:‏ إن اللّه أحله لهم ولا حرمه، وإنما حرم على الذين هادوا ما ذكره في سورة الأنعام‏.‏

ولهذا أنكر في سورة الأنعام وغيرها على من حرم ما لم يحرمه، كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 143‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ‏}‏ الآيات ‏[‏الأنعام‏:‏ 151 - 153‏]‏‏.‏ وقال في سورة النحل‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 118‏]‏، وأخبر أنه حرم ذلك ببغيهم فقال‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏‏.‏

وهذا كله يدل على أصح قولى العلماء، وهو‏:‏ أن هذا التحريم باق عليهم بعد مبعث محمد لا يزول إلا بمتابعته؛ لأنه تحريم عقوبة على ظلمهم وبغيهم، وهذا لم يزل بل زاد وتغلظ، فكانوا أحق بالعقوبة‏.‏

وأيضًا، فإن اللّه ـ تعالى ـ أخبر بهذا التحريم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليبين أنه لم يحرم إلا هذا وهذا، فلو كان ذلك التحريم قد زال لم يستثنه‏.‏

/ وأيضًا، فإن التحريم لا يزول إلا بتحليل منه، وهو إنما أحل أكل الطيبات للمؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏93‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏4، 5‏]‏ وهذا خطاب للمؤمنين؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ‏}‏، فلو كان ما أحل لنا حِلًا لهم لم يحتج إلى هذا، وقوله‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ‏}‏ لا يدخل فيه ما حرم عليهم، كما أن قوله‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ‏}‏ لا يدخل فيه ما حرم علينا مما يستحلونه هم؛ كصيد الحرم وما أهل به لغير اللّه‏.‏

وهل يدخل في طعامهم الذي أحل لنا ما حرم عليهم ولم يحرم علينا، مثل ما إذا ذكوا الإبل‏؟‏ هذا فيه نزاع معروف، فالمشهور من مذهب مالك ـ وهو أحد القولين في مذهب أحمد ـ تحريمه‏.‏ ومذهب أبي حنيفة والشافعي والقول الآخر في مذهب أحمد‏:‏ حله‏.‏

وهل العلة أنهم لم يقصدوا ذكاته، أو العلة أنه ليس من طعامهم‏؟‏ فيه نزاع‏.‏

/ وإذا ذبحوا للمسلم، فهل هو كما إذا ذبحوا لأنفسهم‏؟‏ فيه نزاع‏.‏

وفي جواز ذبحهم النسك إذا كانوا ممن يحل ذبحهم قولان، هما روايتان عن أحمد، فالمنع مذهب مالك، والجواز مذهب أبي حنيفة والشافعي، فإذا كان الذابح يهوديًا صار في الذبح علتان، وليس هذا موضع هذه المسائل‏.‏

ثم إنه ـ سبحانه ـ لما ذكر حال من يقول على اللّه بلا علم، بل تقليدًا لسلفه ذكر حال من يكتم ما أنزل اللّه من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 174‏]‏، فهذا حال من كتم علم الرسول، وذاك حال من عدل عنها إلى خلافها، والعادل عنها إلى خلافها يدخل فيه من قَلَّد أحدًا من الأولين والآخرين فيما يعلم أنه خلاف قول الرسول، سواء كان صاحبا أو تابعًا أو أحد الفقهاء المشهورين الأربعة، أو غيرهم‏.‏

وأما من ظن أن الذين قلدهم موافقون للرسول فيما قالوه، فإن كان قد سلك في ذلك طريقًا علميًا فهو مجتهد له حكم أمثاله، وإن كان متكلمًا بلا علم فهو من المذمومين‏.‏

/ ومن ادعى إجماعًا يخالف نص الرسول من غير نص يكون موافقًا لما يدعيه، واعتقد جواز مخالفة أهل الإجماع للرسول برأيهم، وأن الإجماع ينسخ النص كما تقوله طائفة من أهل الكلام والرأي، فهذا من جنس هؤلاء‏.‏

وأما إن كان يعتقد أن الإجماع يدل على نص لم يبلغنا يكون ناسخًا للأول‏.‏ فهذا وإن كان لم يقل قولًا سديدًا، فهو مجتهد في ذلك، يبين له فساد ما قاله، كمن عارض حديثًا صحيحًا بحديث ضعيف اعتقد صحته، فإن قوله، وإن لم يكن حقًا، لكن يبين له ضعفه، وذلك بأن يبين له عدم الإجماع المخالف للنص، أو يبين له أنه لم تجتمع الأمة على مخالفة نص إلا ومعها نص معلوم يعلمون أنه الناسخ للأول، فدعوى تعارض النص والإجماع باطلة، ويبين له أن مثل هذا لا يجوز؛ فإن النصوص معلومة محفوظة، والأمة مأمورة بتتبعها واتباعها، وأما ثبوت الإجماع على خلافها بغير نص، فهذا لا يمكن العلم بأن كل واحد من علماء المسلمين خالف ذلك النص‏.‏

والإجماع نوعان‏:‏

قطعى‏:‏ فهذا لا سبيل إلى أن يعلم إجماع قطعى على خلاف النص‏.‏

وأما الظنى‏:‏ فهو الإجماع الإقرارى والاستقرائى؛ بأن يستقرئ أقوال العلماء فلا يجد في ذلك خلافًا، أو يشتهر القول في القرآن ولا يعلم أحدًا أنكره، فهذا الإجماع ـ وإن جاز الاحتجاج به ـ /فلا يجوز أن تدفع النصوص المعلومة به؛ لأن هذا حجة ظنية لا يجزم الإنسان بصحتها، فإنه لا يجزم بانتفاء المخالف، وحيث قطع بانتفاء المخالف فالإجماع قطعى‏.‏ وأما إذا كان يظن عدمه ولا يقطع به فهو حجة ظنية، والظنى لا يدفع به النص المعلوم، لكن يحتج به ويقدم على ما هو دونه بالظن، ويقدم عليه الظن الذي هو أقوى منه، فمتى كان ظنه لدلالة النص أقوى من ظنه بثبوت الإجماع قدم دلالة النص، ومتى كان ظنه للإجماع أقوى قدم هذا، والمصيب في نفس الأمر واحد‏.‏

وإن كان قد نقل له في المسألة فروع ولم يتعين صحته، فهذا يوجب له ألا يظن الإجماع إن لم يظن بطلان ذلك النقل، وإلا فمتى جوز أن يكون ناقل النزاع صادقًا، وجوز أن يكون كاذبًا يبقى شاكا في ثبوت الإجماع، ومع الشك لا يكون معه علم ولا ظن بالإجماع، ولا تدفع الأدلة الشرعية بهذا المشتبه، مع أن هذا لا يكون، فلا يكون ـ قط ـ إجماع يجب اتباعه مع معارضته لنص آخر لا مخالف له، ولا يكون ـ قط ـ نص يجب اتباعه وليس في الأمة قائل به، بل قد يخفي القائل به على كثير من الناس‏.‏ قال الترمذى‏:‏ كل حديث في كتأبي قد عمل به بعض أهل العلم إلا حديثين‏:‏ حديث الجمع، وقتل الشارب‏.‏ ومع هذا فكلا الحديثين قد عمل به طائفة، وحديث الجمع قد عمل به أحمد وغيره‏.‏

/ ولكن من ثبت عنده نص ولم يعلم قائلًا به،وهو لا يدرى أجمع على نقيضه، أم لا‏؟‏ فهو بمنزلة من رأي دليلًا عارضه آخر وهو بعد لم يعلم رجحان أحدهما، فهذا يقف إلى أن يتبين له رجحان هذا أو هذا، فلا يقول قولًا بلا علم، ولا يتبع نصا مع‏.‏‏.‏‏.‏ ظن نسخه وعدم نسخه عنده سواء، لما عارضه عنده من نص آخر أو ظن إجماع، ولا عامًا ظن تخصيصه وعدم تخصيصه عنده سواء، فلابد أن يكون الدليل سالمًا عن المعارض المقاوم فيغلب على ظنه نفي المعارض المقاوم وإلا وقف‏.‏

وأيضًا، فمن ظن أن مثل هذا الإجماع يحتج به في خلاف النص إن لم يترجح عنده ثبوت الإجماع، أو يكون معه نص آخر ينسخ الأول وما يظنه من الإجماع معه‏.‏ وأكثر مسائل أهل المدينة التي يحتجون فيها بالعمل يكون معهم فيها نص، فالنص الذي معه العمل مقدم على الآخر، وهذا هو الصحيح في مذهب أحمد وغيره، كتقديم حديث عثمان‏:‏ ‏[‏لا ينكح المحرم‏]‏ على حديث ابن عباس، وأمثال ذلك‏.‏

وأما رد النص بمجرد العمل فهذا باطل عند جماهير العلماء، وقد تنازع الناس في مخالف الإجماع‏:‏ هل يكفر‏؟‏ على قولين‏.‏

/ والتحقيق أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه، لكن هذا لا يكون إلا فيما علم ثبوت النص به‏.‏ وأما العلم بثبوت الإجماع في مسألة لا نص فيها فهذا لا يقع، وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره‏.‏

وحينئذ فالإجماع مع النص دليلان كالكتاب والسنة‏.‏

وتنازعوا في الإجماع‏:‏ هل هو حجة قطعية أو ظنية‏؟‏ والتحقيق أن قطعيه قطعى وظنيه ظنى‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

وقد ذكر نظير هذه الآية في سورة المائدة، وذكر في سورة الزخرف قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 24‏]‏، وهذا يتناول من بين له أن القول الآخر هو أهدى من القول الذي نشأ عليه، فعليه أن يتبعه، كما قال‏:‏ ‏{‏وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 55‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏{‏فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 18‏]‏، والواجب في الاعتقاد أن يتبع أحسن القولين، ليس لأحد أن يعتقد قولًا، وهو يعتقد أن القول المخالف له أحسن منه، وما خير فيه بين فعلين وأحدهما أفضل فهو أفضل، وإن جاز له فعل المفضول فعليه أن يعتقد أن ذلك أفضل، ويكون ذاك أحب إليه من هذا، وهذا اتباع للأحسن‏.‏

/ وإذا نقل عالم الإجماع ونقل آخر النزاع؛إما نقلا سمى قائله،وإما نقلًا بخلاف مطلقًا ولم يسم قائله، فليس لقائل أن يقول‏:‏ نقلًا لخلاف لم يثبت، فإنه مُقَابَل بأن يقال‏:‏ ولا يثبت نقل الإجماع، بل ناقل الإجماع نافٍ للخلاف وهذا مثبت له، والمثبت مقدم على النافي‏.‏

وإذا قيل‏:‏ يجوز في ناقل النزاع أن يكون قد غلط فيما أثبته من الخلاف؛ إما لضعف الإسناد، أو لعدم الدلالة، قيل له‏:‏ ونافي النزاع غلطه أَجْوَز؛ فإنه قد يكون في المسألة أقوال لم تبلغه، أو بلغته وظن ضعف إسنادها، وكانت صحيحة عند غيره، أو ظن عدم الدلالة وكانت دالة، فكل ما يجوز على المثبت من الغلط يجوز على النافي مع زيادة عدم العلم بالخلاف‏.‏

وهذا يشترك فيه عامة الخلاف، فإن عدم العلم ليس علمًا بالعدم لا سيما في أقوال علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا يحصيها إلا رب العالمين؛ ولهذا قال أحمد وغيره من العلماء‏:‏ من ادعى الإجماع فقد كذب‏.‏ هذه دعوى المرِيسِى والأَصَم، ولكن يقول‏:‏ لا أعلم نزاعًا‏.‏ والذين كانوا يذكرون الإجماع كالشافعي وأبي ثور وغيرهما يفسرون مرادهم بأنا لا نعلم نزاعًا، ويقولون‏:‏ هذا هو الإجماع الذي ندعيه‏.‏

فتبين أن مثـل هـذا الإجماع الذي قوبـل بنقـل نزاع، ولم يثبـت واحـد / منهما لا يجـوز أن يحتـج بـه،ومـن لم يترجح عنـده نقل مثبت النزاع على نافيه، ولا نافيه على مثبته فليس له ـ أيضًا ـ أن يقـدمـه على النص ولا يقـدم النص عليـه،بـل يقـف لعـدم رجحان أحـدهما عنـده، فإن ترجح عنده المثبت غلب على ظنه أن النص لم يعارضه إجماع يعمـل بـه، وينظـر في ذلك إلى مثبت الإجماع والنزاع، فمن عـرف منـه كـثرة ما يدعيه مـن الإجماع والأمـر بخـلافـه ليس بمنزلة من لم يعلم منه إثبات إجماع علم انتفاؤه، وكذلك من علم منه في نقل النزاع أنه لا يغلط إلا نادرًا ليس بمنزلة من علم منه كثرة الغلط‏.‏

وإذا تَظَافَرَ على نقل النزاع اثنان لم يأخذ أحدهما عن صاحبه فهذا يثبت به النزاع، بخلاف دعوى الإجماع، فإنه لو تظافر عليه عدد لم يستفد بذلك إلا عدم علمهم بالنزاع، وهذا لمن أثبت النزاع في جمع الثلاث ومن نفي النزاع، مع أن عامة من أثبت النزاع يذكر نقلًا صحيحًا لا يمكن دفعه وليس مع النافي ما يبطله‏.‏

وكثير من الفقهاء المتأخرين أو أكثرهم يقولون‏:‏ إنهم عاجزون عن تَلَقِّى جميع الأحكام الشرعية من جهة الرسول، فيجعلون نصوص أئمتهم بمنزلة نص الرسول ويقلدونهم‏.‏ ولا ريب أن كثيرًا من الناس يحتاج إلى تقليد العلماء في الأمور العارضة التي لا يستقل هو بمعرفتها، ومن سالكى طريق الإرادة والعبادة والفقر والتصوف من يجعل شيخه / كذلك، بل قد يجعله كالمعصوم؛ ولا يتلقى سلوكه إلا عنه، ولا يتلقى عن الرسول سلوكه، مع أن تلقى السلوك عن الرسول أسهل من تلقى الفروع المتنازع فيها؛ فإن السلوك هو بالطريق التي أمر اللّه بها ورسوله من الاعتقادات والعبادات والأخلاق، وهذا كله مبين في الكتاب والسنة، فإن هذا بمنزلة الغذاء الذي لابد للمؤمن منه‏.‏

ولهذا كان جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول، لا يحتاجون في ذلك إلى فقهاء الصحابة، ولم يحصل بين الصحابة نزاع في ذلك، كما تنازعوا في بعض مسائل الفقه التي خفيت معرفتها على أكثر الصحابة، وكانوا يتكلمون في الفتيا والأحكام؛ طائفة منهم يستفتون في ذلك‏.‏

وأما ما يفعله من يريد التقرب إلى اللّه من واجب ومستحب فكلهم يأخذه عن الكتاب والسنة؛ فإن القرآن والحديث مملوء من هذا، وإن تكلم أحدهم في ذلك بكلام لم يسنده هو يكون هو أو معناه مسندًا عن اللّه ورسوله، وقد ينطق أحدهم بالكلمة من الحكمة فتجدها مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كما قيل في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏نُّورٌ عَلَى نُورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، وَلَكِنْ كثير من أهل العبادة والزهادة أعرض عن طلب العلم النبوى الذي يعرف به طريق اللّه ورسوله، فاحتاج لذلك إلى تقليد شيخ‏.‏

/ وفي السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ، لكن يوجد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب في ذلك ما يفهمه غالب السالكين، فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد كلها منصوصة في الكتاب والسنة، وإنما اختلف أهل الكلام لما أعرضوا عن الكتاب والسنة، فلما دخلوا في البدع وقع الاختلاف، وهكذا طريق العبادة، عامة ما يقع فيه من الاختلاف إنما هو بسبب الإعراض عن الطريق المشروع، فيقعون في البدع فيقع فيهم الخلاف‏.‏

وهكذا الفقه إنما وقع فيه الاختلاف لما خفي عليهم بيان صاحب الشرع، ولكن هذا إنما يقع النزاع في الدقيق منه، وأما الجليل فلا يتنازعون فيه‏.‏ والصحابة أنفسهم تنازعوا في بعض ذلك ولم يتنازعوا في العقائد، ولا في الطريق إلى اللّه التي يصير بها الرجل من أولياء اللّه الأبرار المقربين، ولهذا كان عامة المشايخ إذا احتاجوا في مسائل الشرع مثل مسائل النكاح والفرائض والطهارة وسجود السهو ونحو ذلك قلدوا الفقهاء؛ لصعوبة أخذ ذلك عليهم من النصوص‏.‏ وأما مسائل التوكل والإخلاص والزهد، ونحو ذلك فهم يجتهدون فيها، فمن كان منهم متبعًا للرسول أصاب، ومن خالفه أخطأ‏.‏

ولا ريب أن البدع كثرت في باب العبادة والإرادة أعظم مما كثرت في باب الاعتقاد والقول؛ لأن الإرادة يشترك الناس فيها أكثر مما / يشتركون في القول؛ فإن القول لا يكون إلا بعقل، والنطق من خصائص الإنسان‏.‏وأما جنس الإرادة فهو مما يتصف به كل الحيوان، فما من حيوان إلا وله إرادة، وهؤلاء اشتركوا في إرادة التأله؛ لكن افترقوا في المعبود وفي عبادته؛ ولهذا وصف اللّه في القرآن رهبانية النصارى بأنهم ابتدعوها، وذم المشركين في القرآن على ما ابتدعوه من العبادات والتحريمات، وذلك أكثر مما ابتدعوه من الاعتقادات؛ فإن الاعتقادات كانوا فيها جهالًا في الغالب فكانت بدعهم فيها أقل؛ ولهذا كلما قرب الناس من الرسول كانت بدعهم أخف فكانت في الأقوال، ولم يكن في التابعين وتابعيهم من تَعَبَّدَ بالرقص والسماع، كما كان فيهم خوارج ومعتزلة وشيعة، وكان فيهم من يكذب بالقدر ولم يكن فيهم من يحتج بالقدر‏.‏

فالبدع الكثيرة التي حصلت في المتأخرين من العباد والزهاد والفقراء والصوفية لم يكن عامتها في زمن التابعين وتابعيهم، بخلاف أقوال أهل البدع القولية، فإنها ظهرت في عصر الصحابة والتابعين، فعلم أن الشبهة فيها أقوى وأهلها أعقل، وأما بدع هؤلاء فأهلها أجهل، وهم أبعد عن متابعة الرسول‏.‏

ولهذا يوجد في هؤلاء من يدعى الإلهية والحلول والاتحاد، ومن يدعى أنه أفضل من الرسول، وأنه مُسْتَغْنٍ عن الرسول، وأن / لهم إلى اللّه طريقًا غير طريق الرسول‏.‏ وهذا ليس من جنس بدع المسلمين، بل من جنس بدع الملاحدة من المتفلسفة، ونحوهم، وأولئك قد عرف الناس أنهم ليسوا مسلمين، وهؤلاء يدعون أنهم أولياء اللّه مع هذه الأقوال التي لا يقولها إلا من هو أكَفْرُ من اليهود والنصارى، وكثير منهم ـ أو أكثرهم ـ لا يعرف أن ذلك مخالفة للرسول، بل عند طائفة منهم أن أهل الصفَّة قاتلوا الرسول وأقرهم على ذلك‏.‏ وعند آخرين أن الرسول أُمِرَ أن يذهب ليسلم عليهم ويطلب الدعاء منهم، وأنهم لم يأذنوا له، وقالوا‏:‏ اذهب إلى من أرسلت إليهم، وأنه رجع إلى ربه فأمره أن يتواضع ويقول‏:‏ خُوَيْدِمُكم جاء ليسلم عليكم‏.‏ فجبروا قلبه، وأذنوا له بالدخول‏.‏

فمع اعتقادهم هذا الكفر العظيم الذي لا يعتقده يهودى ولا نصرانى يقر بأنه رسول لله إلى الأميين، يقولون‏:‏ إن الرسول أقرهم على ذلك واعترف به، واعترف أنهم خواص لله، وأن لله يخاطبهم بدون الرسول، لم يحوجهم إليه كبعض خواص الملك مع وزرائه، ويحتجون بقصة الخضر مع موسى، وهي حجة عليهم ـ لا لهم ـ من وجوه كثيرة قد بسطت في موضع آخر‏.‏

والضلال والجهل في جنس العباد والمبتدعة أكثر منه في جنس أهل الأقوال، لكن فيهم من الزهد والعبادة والأخلاق ما لا يوجد في/أولئك، وفي أولئك من الكِبْر والبخل والقسوة ما ليس فيهم، فهؤلاء فيهم شَبَهٌ من النصارى وهؤلاء فيهم شبه من اليهود، واللّه ـ تعالى ـ أمرنا أن نقول‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏؛ ولهذا آل الأمر بكثير من أكابر مشايخهم إلى أنهم شهدوا توحيد الربوبية والإيمان بالقدر، وذلك شامل لجميع الكائنات، فعدوا الفناء في هذا بزوال الفرق بين الحسنات والسيئات غاية المقامات، وليس بعده إلا ما سموه توحيدًا، وهو من جنس الحلول والاتحاد الذي تقوله النصارى، ولكنهم يهابون الإفصاح عن ذلك، ويجعلونه من الأسرار المكتومة‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ إن الحلاج هذا كان مشهده، وإنما قتل لأنه باح بالسر الذي ما ينبغى البَوْحُ به‏.‏ وإذا انضم إلى ذلك أن يكون أحدهم قد أخذ عمن يتكلم في إثبات القدر من أهل الكلام، أو غيرهم، ويجعل الجميع صادرًا عن إرادة واحدة، وليس هنا حب ولا بغض ولا رضًا ولا سخط ولا فرح، ولكن المرادات متنوعة، فما كان ثوابًا سمى تعلق الإرادة به رضًا، وما كان عقابًا سمى سخطًا، فحينئذ مع هذا المشهد لا يبقى عنده تمييز، ويسمون هذا‏:‏ الجمع والاصْطِلام‏.‏

وكــان الجُنَيْـد ـ قـدس اللّه روحـه ـ لما وصل أصحابـه ـ كالثـورى /وأمثالـه ـ إلى هـذا المقام أمرهم بالفـرق الثانى، وهـو‏:‏ أن يـفرقـوا بين المأمـور والمحظـور، ومحبـوب اللّه ومُرْضِيه، ومَسْخُوطه ومكروهه، وهو مشهد الإلهية الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتـب، وهـو حقيـقـة قـول‏:‏ لا إلـه إلا اللّه‏.‏ فمنهـم مـن أنكـر على الجنيـد، ومنهـم مـن توقـف، ومنهم مـن وافق‏.‏ والصـواب ما قـالـه الجنيد مـن ذكر هـذه الكلمـة في الفـرق بين المأمـور والمحظـور، والكلمـة الأخـرى في الفـرق بين الرب والعبـد، وهـو قولـه‏:‏ التوحيـد إفـراد الحـدوث عـن القـدم‏.‏ فهـذا رد على الاتحادية والحُلُولية منهم، وتلك رد على مـن يقـف عنـد الحقيـقـة الكونيـة منهم، ومـا أكثر مـن ابتـلى بهـذين منهم‏.‏

ثم من الناس من يقوم بهذا الفرق، لكن لنفسه وهواه، لا عبادة وطاعة للّه، فهذا مثل من يجاهد ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر لهواه، كالمقاتل شجاعة وحَمِيَّة ورياء، وذاك بمنزلة من لا يأمر بمعروف ولا ينهي عن منكر ولا يجاهد، هذا شبيه بالراهب، وذاك شبيه بمن لم يطلب إلا الدنيا، ذاك مبتدع وهذا فاجر‏.‏

وقد كَثُرَ في المتَزَهِّدة والمتَفَقِّرة البدع، وفي المعرضين عن ذلك طلب الدنيا،وطلاب الدنيا لا يعارضون تاركها إلا لأغراضهم، وإن كانوا مبتدعة، وأولئك لا يعارضون أبناء الدنيا إلا لأغراضهم، فتبقى المنازعات للدنيا،/ لا لتكون كلمة اللّه هي العليا، ولا ليكون الدين للّه، بخلاف طريقة السلف ـ رضى اللّه عنهم ـ أجمعين، وكلاهما خارج عن الصراط المستقيم‏.‏

نسأل اللّه أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا‏.‏ آخره والحمد للّه رب العالمين‏.‏